سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

شارع حلبجة

كنت في أحد شوارع جنيف أتأمل أسرار المدينة التي تعيش على البحيرة والهدوء والحياد عن جميع قوى البشر. استوقفني شاب بنظارتين طبيتين: «فلان؟».. نعم. قال: «أنا قارئ كردي». قلت: أهلا، من أين بالضبط؟ يا ليتني لم أسأل.
قال: «من حلبجة. خرجت مع ستة آلاف شخص هربا من الكيماوي. ثم شعرنا بأن الموت أفضل من ذل اللجوء في العالم العربي. وبعد معاناة طويلة وصلنا إلى هنا. هل تقبل دعوتي إلى فنجان قهوة؟».
اعتذرت. بضع ثوان ترى فيها نفسك أمام رجل بقي حيا من حلبجة، تكفي. نحن البلاد الوحيدة التي استخدمت الغاز السام بعد الحرب العالمية الثانية، والوحيدة في التاريخ التي استخدمت الغاز على شعبها. أذكر جيدا السيد علي الكيماوي يبكي نفسه في قفص المحكمة الرديء الشكل والمعنى والمغزى. لكن لم يخطر للفريق أول ركن (أقل شيء) علي حسن المجيد، أن يدمع على 19 ألف امرأة وطفل ورجل هربوا في لحظة واحدة. وفي ذلك القفص المخزي للقضاء والعدالة، شاهدنا أيضا السيد برزان التكريتي يفتق قميصه القطني ويصرخ من الاختناق النفسي، ولم يكن قد خطر له لحظة ما هو الاختناق والذل والتعذيب الذي يتعرض له الآن السجناء في ظل النظام الذي كان رئيس مخابراته وآمر الجلادين فيه.
أعاد نظام نوري المالكي وتنظيم «داعش» شيئا من الاعتبار لسنوات الإخوة والأشقاء والأصهار وأبناء العم إلى تكريتي العراق. ويحاول فظائعيّو ليبيا عبثا إعادة شيء ما إلى الجماهيرية الشعبية ولجانها ونهب بنوكها الرسمية. لا.. لن يندم أحد على جلاد راحل بسبب أعمال جلاد قادم. ألف جلاد لا يشكلون عادلا واحدا. هذا الانهيار في كل أنواع القيم الإنسانية لم يبدأ مع الزفت الذي سميناه ربيعا كمثل عادتنا في تزوير الألقاب والأسماء والتاريخ.
تذهب تونس قريبا إلى انتخاب رئيس جديد. ودعوني في هذه المناسبة أحي السيد زين العابدين بن علي، الذي اعتذرت عن عدم قبول دعوته الخطية رئيسا، لأنه بدل أن يرسل من يعتقل محمد بوعزيزي المحترق، ذهب وزاره في المستشفى. وبدل أن يؤدبه، طرد الشرطية التي حجبت عنه إجازة بيع الخضار. وبدل أن يؤدب مدينته ويعتقل شبانها، توجه هو وعائلته إلى الطائرة وغادر البلاد.
كان بن علي قاسيا وشديدا ومنغلقا، لكنه كان أرحم ألف مرة من الزُمر التي تجوب شوارع تونس لتفرض على الناس كيف يمشون وكيف يتنفسون وماذا يقرأون.