حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

العيش الكريم.. للجميع!

ما الذي يجعل المجتمعات الناجحة أحسن من غيرها؟ سؤال جدير بالبحث عن الإجابة عنه بتمعن شديد؛ نظرا لما فيه من مفاتيح لفك الكثير من «طلاسم» الإخفاق والفشل الذي نراه منتشرا في العالم العربي مقارنة بالذات مع الدول الصناعية الكبرى حول العالم.
المجتمعات العربية تبنت ببطء شديد المشروع المدني الذي تسعى لنشره حكوماتها بين كل شعوبها، فاستحدثت جراء ذلك مجموعة غير بسيطة من القوانين والتشريعات والنظم التي تؤسس علاقة بين المواطن والدولة عبر سياسات تقنن فيها منظومة المرور والشؤون البلدية والنظافة والخدمات العامة والأحوال المدنية والمرافق العامة والشرطة والصحة والتعليم والقضاء هذا هو مشروع الدولة المدنية مبسطا في أصغر أشكاله الممكنة، ولكنّ هناك فرقا جوهريا وهائلا بين مفهومي المدنية والحضارة؛ المدنية هي تلك المنظومة القانونية الموجودة لتنظيم العلاقة بين المواطن والدولة، وتكون فيها «العصا» أكثر ظهورا وبروزا من الجزرة، وذلك بشكل جلي، فتكون العقوبات والتهديد الآتي قبلها سادتي الموقف دائما، والعلاقة بسبب عدم نضجها تكون مليئة بحالات الشك والقلق والريبة والخوف من الطرفين، وبالتالي يكون الترصد بالبعض هو الحال الدائم والمستمر.
وعلى العكس تماما، انتقلت الدول الصناعية المتقدمة من حال المدنية إلى حال الحضارة، وأصبح تطبيق القانون والنظام مسألة تلقائية مثل التنفس والأكل تماما، بل أصبح جزءا أساسيا من الضمير والوازع الاجتماعي ومسألة أخلاقية تمس كرامة من يخالفها وتجلب له العار والخجل بشكل كبير جدا.
فمفهوم المرور، ومفهوم الصحة، ومفهوم التعليم، ومفهوم النظافة في هذه المجتمعات مسألة حقوق «جماعية»؛ بمعنى من يقوم بإهمال تنظيف الشارع يتسبب في مشكلة «عامة» وضرر «جماعي» لا بد أن يحاسب عليه حسابا غير بسيط، وكذلك الأمر بالنسبة لمفهوم التلوث البيئي وإهمال الإصلاحات والصيانة في المرافق الحيوية العامة من طرق وجسور وحدائق عامة وميادين ومدارس ومستشفيات وجامعات ودورات مياه عامة ومطارات ومحطات سكك حديدية.
اليوم، حتى هذه المسلمات يجري «ترقيتها» وتطويرها وتنميتها، وذلك بحسب الاحتياج الحقيقي والدقيق والمدروس لتلك المجتمعات، وما حدث في مسألة تجميع القمامة على سبيل المثال هو توصيف حقيقي ودقيق لذلك، فمن حال تجميع القمامة التي كان يلقى بها في حاوية كبيرة ويتم تجميعها بشكل عام كل أسبوع، تطور الأمر لتكون مجمعة في أكياس بلاستيكية توضع أمام المنزل ويتم تجميعها بشكل يومي، حتى حصل التطور الذي قضى بتقسيم القمامة والفضلات، فمنها ما يمكن إعادة تدويره مثل الورق، والكرتون، والزجاج، والألمنيوم، والبلاستيك بشكل مفصل ودقيق وفعال ومؤثر، ويكون ذا فائدة أهم وأعلى للمجتمع تجمع بين تحقيق الفائدة المالية، وذلك عبر التوفير المنشود والفعالية في إنجاز المطلوب من عملية التدوير نفسها.
هذا هو حال المجتمعات الحضارية التي تنتقل من مرحلة القوانين التي تنفذ خوفا من العقوبة والقصاص إلى مرحلة القوانين التي تطبق رغبة في عيش أفضل وأكرم وأهم، فيكون السعي المستمر للتطور والتنمية، وهذا هو الذي يجعل هلسنكي، العاصمة الفنلندية، تسعى اليوم عبر الإعلان عن خطة محكمة، أنه بحلول عام 2025 ستكون أول مدينة في العالم تعلن نفسها أنها تقدم خدمة المواصلات العامة لكافة سكانها بشكل مؤثر وناجح وفعال، وأنه لن يكون هناك أي مالك في المدينة لسيارة خاصة، وهم بهذا الهدف وهذه السياسة والتوجه يسعون بشكل جدي مؤكد إلى الإقلال من الزحام والتخفيف من استهلاك الوقود والتغلب على تبعات الكوارث المصاحبة لمسألة التلوث البيئي البشع، وهو مشروع أقل ما يقال عنه إنه طموح وجدي جدا.
كذلك ما أقدمت عليه النرويج عندما أعلنت عن إغلاق بعض السجون العامة، وذلك بسبب عدم وجود عدد كافٍ من السجناء، وحتى يكون ذلك توفيرا على أموال الدولة العامة.
وكذلك ما قامت بعمله دولة السويد عندما وجدت أنه ليس لديها كميات «كافية» من القمامة حتى يتم تدويرها في المعامل المخصصة لذلك، فقامت بـ«استيراد» قمامة من دول أخرى لاستخدامها في إعادة التدوير.
هذه الأخبار بغض النظر عن أنها قد تكون من المسببات الرئيسة للجلطات القلبية لقارئها بسبب الحسرة والمقارنة مع الحال العربي، إلا أنها تظهر جليا وبشكل عملي الفارق الجوهري بين المجتمع المدني والمجتمع الحضاري، والمسألة تتخطى فكرة تطبيق القانون إلى فكرة العيش بالقانون وبالكرامة والتفكير الدائم في تحسين الحال العام بحيث يتحقق مفهوم العيش الكريم للجميع.